فصل: تَضْمِينُ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْجِرَاحِ:

وَالْجِرَاحُ صِنْفَانِ: مِنْهَا مَا فِيهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ أَوِ الْعَفْوُ. وَمِنْهَا مَا فِيهِ الدِّيَةُ أَوِ الْعَفْوُ. وَلْنَبْدَأْ بِمَا فِيهِ الْقِصَاصُ، وَالنَّظَرُ أَيْضًا هَاهُنَا فِي شُرُوطِ الْجَارِحِ وَالْجُرْحِ الَّذِي بِهِ يَحِقُّ الْقِصَاصُ وَالْمَجْرُوحُ، وَفِي الْحُكْمِ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ، وَفِي بَدَلِهِ إِنْ كَانَ لَهُ بَدَلٌ. الْقَوْلُ فِي الْجَارِحِ وَيُشْتَرَطُ فِي الْجَارِحِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْقَاتِلِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا عَاقِلًا، وَالْبُلُوغُ يَكُونُ بِالِاحْتِلَامِ وَالسِّنِّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي مِقْدَارِهِ، فَأَقْصَاهُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَأَقَلُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ سَنَةً، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْوَاحِدَ إِذَا قَطَعَ عُضْوَ إِنْسَانٍ وَاحِدٍ اقْتُصَّ مِنْهُ إِذَا كَانَ مِمَّا فِيهِ الْقِصَاصُ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا قَطَعَتْ جَمَاعَةٌ عُضْوًا وَاحِدًا، فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا تُقْطَعُ يَدَانِ فِي يَدٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: تُقْطَعُ الْأَيْدِي بِالْيَدِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا تُقْتَلُ عِنْدَهُمُ الْأَنْفُسُ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ، وَفَرَّقَتِ الْحَنَفِيَّةُ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْأَطْرَافِ، فَقَالُوا: لَا تُقْطَعُ أَعْضَاءٌ بِعُضْوٍ، وَتُقْتَلُ أَنْفُسٌ بِنَفْسٍ، وَعِنْدَهُمْ أَنَّ الْأَطْرَافَ تَتَبَعَّضُ، وَإِزْهَاقَ النَّفْسِ لَا يَتَبَعَّضُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْإِنْبَاتِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ بُلُوغٌ بِإِطْلَاقٍ. وَاخْتَلَفَ الْمَذْهَبُ فِيهِ فِي الْحُدُودِ، هَلْ هُوَ بُلُوغٌ فِيهَا أَمْ لَا؟
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ حَدِيثُ بَنِي قُرَيْظَةَ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مِنْهُمْ مَنْ أَنْبَتَ وَجَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِي»، كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي السِّنِّ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَرَضَهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يَقْبَلْهُ وَقَبِلَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.

.الْقَوْلُ فِي الْمَجْرُوحِ:

وَأَمَّا الْمَجْرُوحُ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ دَمُهُ مُكَافِئًا لِدَمِ الْجَارِحِ وَالَّذِي يُؤَثِّرُ فِي التَّكَافُؤِ الْعُبُودِيَّةُ وَالْكُفْرُ. أَمَّا الْعَبْدُ وَالْحُرُّ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُقُوعِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي الْجُرْحِ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي النَّفْسِ، فَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنَ الْحُرِّ لِلْعَبْدِ، وَيُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ الْعَبْدِ كَالْحَالِ فِي النَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى أَنَّهُ يُقْتَصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْجُرْحِ وَالنَّفْسِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ، فَقَالَ: يُقْتَصُّ مِنَ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى فِي النَّفْسِ وَالْجُرْحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقْتَصُّ مِنَ النَّفْسِ دُونَ الْجُرْحِ، وَعَنْ مَالِكٍ الرِّوَايَتَانِ. وَالصَّوَابُ كَمَا يُقْتَصُّ مِنَ النَّفْسِ أَنْ يُقْتَصَّ مِنَ الْجُرْحِ، فَهَذِهِ هِيَ حَالُ الْعَبِيدِ مَعَ الْأَحْرَارِ.
وَأَمَّا حَالُ الْعَبِيدِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِيهِمْ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الْقِصَاصَ بَيْنَهُمْ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهَا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاعَةٍ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمْ لَا فِي النَّفْسِ وَلَا فِي الْجَرْحِ، وَأَنَّهُمْ كَالْبَهَائِمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَجَمَاعَةٍ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقِصَاصَ بَيْنَهُمْ فِي النَّفْسِ دُونَ مَا دُونَهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ}، وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ «أَنَّ عَبْدًا لِقَوْمٍ فُقَرَاءَ قَطَعَ أُذُنَ عَبْدٍ لِقَوْمٍ أَغْنِيَاءَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَقْتَصَّ مِنْهُ» فَهَذَا هُوَ حُكْمُ النَّفْسِ.

.الْقَوْلُ فِي الْجَرْحِ:

وَأَمَّا الْجَرْحُ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ (أَعْنِي: الْجَرْحَ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ)، وَالْجَرْحُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ يُتْلِفُ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِ الْمَجْرُوحِ أَوْ لَا يُتْلِفُ: فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُتْلِفُ جَارِحَةً فَالْعَمْدُ فِيهِ هُوَ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ عَلَى وَجْهِ الْغَضَبِ بِمَا يَجْرَحُ غَالِبًا.
وَأَمَّا إِنْ جَرَحَهُ عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ أَوِ اللَّعِبِ بِمَا لَا يُجْرَحُ بِهِ غَالِبًا أَوْ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي يَقَعُ فِي الْقَتْلِ الَّذِي يَتَوَلَّدُ عَنِ الضَّرْبِ فِي اللَّعِبِ وَالْأَدَبِ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ الْآلَةَ حَتَّى يَقُولَ: إِنَّ الْقَاتِلَ بِالْمُثَقَّلِ لَا يُقْتَلُ وَهُوَ شُذُوذٌ مِنْهُ (أَعْنِي: بِالْخِلَافِ هَلْ فِيهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ إِنْ كَانَ الْجُرْحُ مِمَّا فِيهِ الدِّيَةُ).
وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْجُرْحُ قَدْ أَتْلَفَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِ الْمَجْرُوحِ، فَمِنْ شَرْطِ الْقِصَاصَ فِيهِ الْعَمْدُ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ، وَفِي تَمْيِيزِ الْعَمْدِ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ الْعَمْدِ خِلَافٌ. أَمَّا إِذَا ضَرَبَهُ عَلَى الْعُضْوِ نَفْسِهِ فَقَطَعَهُ وَضَرَبَهُ بِآلَةٍ تَقْطَعُ الْعُضْوَ غَالِبًا، أَوْ ضَرَبَهُ عَلَى وَجْهِ النَّائِرَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ.
وَأَمَّا إِنْ ضَرَبَهُ بِلَطْمَةٍ أَوْ سَوْطٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا الظَّاهِرُ مِنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إِتْلَافَ الْعُضْوِ مِثْلَ أَنْ يَلْطِمَهُ فَيَفْقَأَ عَيْنَهُ، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ شِبْهُ الْعَمْدِ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ، وَفِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ فِي مَالِهِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْعِرَاقِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ ذَلِكَ عَمْدٌ وَفِيهِ الْقِصَاصُ إِلَّا فِي الْأَبِ مَعَ ابْنِهِ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ إِلَى أَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ إِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْسِ لَا فِي الْجَرْحِ.
وَأَمَّا إِنْ جَرَحَهُ فَأَتْلَفَ عُضْوًا عَلَى وَجْهِ اللَّعِبِ فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْقِصَاصِ، وَالثَّانِي نَفْيُهُ. وَمَا يَجِبُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ قِيلَ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةٌ، وَقِيلَ دِيَةُ الْخَطَأِ (أَعْنِي: فِيمَا فِيهِ دِيَةٌ)، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ فَفِيهِ الْخِلَافُ.
وَأَمَّا مَا يَجِبُ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ إِذَا وَقَعَتْ عَلَى الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهُوَ الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وَذَلِكَ فِيمَا أَمْكَنَ الْقِصَاصُ فِيهِ مِنْهَا، وَفِيمَا وُجِدَ مِنْهُ مَحَلُّ الْقِصَاصِ وَلَمْ يُخْشَ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ. وَإِنَّمَا صَارُوا لِهَذَا لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَفَعَ الْقَوَدَ فِي الْمَأْمُومَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْجَائِفَةِ»، فَرَأَى مَالِكٌ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ أَنَّ هَذَا حُكْمُ مَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذِهِ مِنَ الْجِرَاحِ الَّتِي هِيَ مَتَالِفُ، مِثْلُ كَسْرِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ وَالصُّلْبِ وَالصَّدْرِ وَالْفَخِذِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُنَقِّلَةِ، فَمَرَّةً قَالَ: بِالْقِصَاصِ، وَمَرَّةً قَالَ بِالدِّيَةِ.
وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَ مَالِكٍ فِيمَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ التَّسَاوِي فِي الْقِصَاصِ مِثْلُ الِاقْتِصَاصِ مِنْ ذَهَابِ بَعْضِ النَّظَرِ أَوْ بَعْضِ السَّمْعِ، وَيَمْنَعُ الْقِصَاصَ أَيْضًا عِنْدَ مَالِكٍ عَدَمُ الْمِثْلِ مِثْلَ أَنْ يَفْقَأَ أَعْمَى عَيْنَ بَصِيرٍ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا فِي الْأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ عَمْدًا، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنْ أَحَبَّ الصَّحِيحُ أَنْ يَسْتَقِيدَ مِنْهُ فَلَهُ الْقَوَدُ، وَاخْتَلَفُوا إِذَا عَفَا عَنِ الْقَوَدِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ أَحَبَّ فَلَهُ الدِّيَةُ كَامِلَةً أَلْفُ دِينَارٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَقِيلَ لَيْسَ لَهُ إِلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنْ مَالِكٍ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَبِالْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ الْمُغِيرَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَابْنُ دِينَارٍ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: لَيْسَ لِلصَّحِيحِ الَّذِي فُقِئَتْ عَيْنُهُ إِلَّا الْقَوَدُ أَوْ مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ، وَقَدْ قِيلَ لَا يَسْتَقِيدُ مِنَ الْأَعْوَرِ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعَنْ عُثْمَانَ. وَعُمْدَةُ صَاحِبِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ عَيْنَ الْأَعْوَرِ بِمَنْزِلَةِ عَيْنَيْنِ، فَمَنْ فَقَأَهَا فِي وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ اقْتَصَّ مِنِ اثْنَيْنِ فِي وَاحِدَةٍ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا ذَهَبَ مَنْ رَأَى أَنَّهُ إِذَا تَرَكَ الْقَوَدَ أَنَّ لَهُ دِيَةً كَامِلَةً، وَيَلْزَمُ حَامِلَ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ لَا يَسْتَقِيدَ ضَرُورَةً، وَمَنْ قَالَ بِالْقَوَدِ وَجَعَلَ الدِّيَةَ نِصْفَ الدِّيَةِ فَهُوَ أَحْرَزُ لِأَصْلِهِ، فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ بَيَّنَ بِنَفْسِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا هَلِ الْمَجْرُوحُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ، أَمْ لَيْسَ لَهُ إِلَّا الْقِصَاصُ فَقَطْ إِلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ؟
فَفِيهِ الْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ الْقَوْلَيْنِ فِي الْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ قَوْلَيْ مَالِكٍ فِي الْأَعْوَرِ يَفْقَأُ عَيْنَ الصَّحِيحِ: أَنَّ الصَّحِيحَ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْأَعْوَرِ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَتَى يُسْتَقَادُ مِنَ الْجُرْحِ؟
فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يُسْتَقَادُ مِنْ جُرْحٍ إِلَّا بَعْدَ انْدِمَالِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَى الْفَوْرِ، فَالشَّافِعِيُّ تَمَسَّكَ بِالظَّاهِرِ، وَمَالِكٌ رَأَى أَنْ يُعْتَبَرَ مَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ الْجُرْحِ مَخَافَةَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى إِتْلَافِ النَّفْسِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُقْتَصِّ مِنَ الْجُرْحِ يَمُوتُ الْمُقْتَصُّ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُقْتَصِّ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ: أَحْمَدُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَدَاوُدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَجَمَاعَةٌ: إِذَا مَاتَ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ الدِّيَةُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ فِي مَالِهِ. وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: يَسْقُطُ عَنْهُ مِنَ الدِّيَةِ قَدْرُ الْجِرَاحَةِ الَّتِي اقْتَصَّ مِنْهَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ. فَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ إِجْمَاعُهُمْ عَلَى أَنَّ السَّارِقَ إِذَا مَاتَ مِنْ قَطْعِ يَدِهِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الَّذِي قَطَعَ يَدَهُ. وَعُمْدَةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَتْلُ خَطَأٍ وَجَبَتْ فِيهِ الدِّيَةُ. وَلَا يُقَادُ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَلَا الْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَيُؤَخَّرُ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَمُوتَ الْمُقَادُ مِنْهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمَكَانَ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الْقِصَاصِ وَهُوَ غَيْرُ الْحَرَمِ، فَهَذَا هُوَ حُكْمُ الْعَمْدِ فِي الْجِنَايَاتِ عَلَى النَّفْسِ وَفِي الْجِنَايَاتِ عَلَى أَعْضَاءِ الْبَدَنِ، وَيَنْبَغِي أَنْ نَصِيرَ إِلَى حُكْمِ الْخَطَأِ فِي ذَلِكَ، وَنَبْتَدِئَ بِحُكْمِ الْخَطَأِ فِي النَّفْسِ.

.كِتَابُ الدِّيَاتِ فِي النُّفُوسِ:

وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}. وَالدِّيَاتُ تَخْتَلِفُ فِي الشَّرِيعَةِ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الدِّمَاءِ، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُمُ الدِّيَةُ، وَأَيْضًا تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الْعَمْدِ إِذَا رَضِيَ بِهَا إِمَّا الْفَرِيقَانِ، وَإِمَّا مَنْ لَهُ الْقَوَدُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ. وَالنَّظَرُ فِي الدِّيَةِ هُوَ فِي مُوجِبِهَا (أَعْنِي: فِي أَيِّ قَتْلٍ تَجِبُ)، ثُمَّ فِي نَوْعِهَا وَفِي قَدْرِهَا، وَفِي الْوَقْتِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ. فَأَمَّا فِي أَيِّ قَتْلٍ تَجِبُ، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا تَجِبُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ الدية، وَفِي الْعَمْدِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ مِثْلِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ، وَفِي الْعَمْدِ الَّذِي تَكُونُ حُرْمَةُ الْمَقْتُولِ فِيهِ نَاقِصَةً عَنْ حُرْمَةِ الْقَاتِلِ، مِثْلَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ. وَمِنْ قَتْلِ الْخَطَأَ مَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ خَطَأٌ، وَمِنْهُ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ صَدْرٌ مِنْ ذَلِكَ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي تَضْمِينِ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ.
وَأَمَّا قَدْرُهَا وَنَوْعُهَا الدية، فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، وَهِيَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ ثَلَاثُ دِيَاتٍ: دِيَةُ الْخَطَأِ، وَدِيَةُ الْعَمْدِ إِذَا قُبِلَتْ، وَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ. وَهِيَ عِنْدَ مَالِكٍ فِي الْأَشْهَرِ عَنْهُ مِثْلُ فِعْلِ الْمُدْلِجِيِّ بِابْنِهِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَالدِّيَةُ عِنْدَهُ اثْنَانِ فَقَطْ: مُخَفَّفَةٌ وَمُغَلَّظَةٌ. فَالْمُخَفَّفَةُ دِيَةُ الْخَطَأِ، وَالْمُغَلَّظَةُ دِيَةُ الْعَمْدِ وِدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَالدِّيَاتُ عِنْدَهُ اثْنَانِ أَيْضًا: دِيَةُ الْخَطَأِ، وَدِيَةُ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ دِيَةٌ فِي الْعَمْدِ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عِنْدَهُ فِي الْعَمْدِ مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ وَهُوَ حَالٌّ عَلَيْهِ غَيْرُ مُؤَجَّلٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ الْمَشْهُورِ، لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ تَلْزَمْهُ الدِّيَةُ عِنْدَهُ إِلَّا بِاصْطِلَاحٍ فَلَا مَعْنَى لِتَسْمِيَتِهَا دِيَةً إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهَا تَكُونُ مُؤَجَّلَةً كَدِيَةِ الْخَطَأِ فَهُنَا يَخْرُجُ حُكْمُهَا عَنْ حُكْمِ الْمَالِ الْمُصْطَلَحِ عَلَيْهِ، وَدِيَةُ الْعَمْدِ عِنْدَهُ أَرْبَاعٌ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ، وَالدِّيَةُ الْمُغَلَّظَةُ عِنْدَهُ أَثْلَاثًا: ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً (وَهِيَ الْحَوَامِلُ)، وَلَا تَكُونُ الْمُغَلَّظَةُ عِنْدَهُ فِي الْمَشْهُورِ إِلَّا فِي مِثْلِ فِعْلِ الْمُدْلِجِيِّ بِابْنِهِ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا تَكُونُ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَثْلَاثًا أَيْضًا، وَرَوَى ذَلِكَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: الدِّيَةُ فِي الْعَمْدِ إِذَا عَفَا وَلِيُّ الدَّمِ أَخْمَاسًا كَدِيَةِ الْخَطَأِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ: هِيَ أَخْمَاسٌ: عِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَةَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا، وَعِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ وَرَبِيعَةَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ (أَعْنِي: التَّخْمِيسَ)، إِلَّا أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَكَانَ ابْنِ لَبُونٍ ذَكَرٍ ابْنَ مَخَاضٍ ذَكَرًا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْوَجْهَانِ جَمِيعًا.
وَرُوِيَ عَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ أَنَّهُ جَعَلَهَا أَرْبَاعًا، أَسْقَطَ مِنْهَا الْخَمْسَ وَالْعِشْرِينَ بَنِي لَبُونٍ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَلَا حَدِيثَ فِي ذَلِكَ مُسْنَدٌ، فَدَلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ كَمَا قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ ذُكُورٌ، وَعِشْرُونَ بَنَاتِ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ حِقَّةً» وَاعْتَلَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ أَبُو عُمَرَ بِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ خَشْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَجْهُولٌ قَالَ: وَأَحَبُّ إِلَيَّ فِي ذَلِكَ الرِّوَايَةُ عَنْ عَلِيٍّ، لِأَنَّهُ لَمْ يُخْتَلَفْ فِي ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا اخْتُلِفَ عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ مَنْ قُتِلَ خَطَأً فَدِيَتُهُ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ: ثَلَاثُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَثَلَاثُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَعَشَرَةُ بَنِي لَبُونٍ ذُكُورٍ» قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا أَعْرِفُ أَحَدًا مِنَ الْفُقَهَاءِ الْمَشْهُورِينَ قَالَ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ إِنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ، وَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي الْأَصْنَافِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مُرَبَّعَةٌ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَهُمُ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَهَؤُلَاءِ جَعَلُوهَا: خَمْسًا وَعِشْرِينَ جَذَعَةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ حِقَّةً، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَخَمْسًا وَعِشْرِينَ بَنَاتِ مَخَاضٍ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَخَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ. وَإِنَّمَا صَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَخْمِيسِ دِيَةِ الْخَطَأِ: عِشْرُونَ حِقَّةً، وَعِشْرُونَ جَذَعَةً، وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرُونَ بَنِي مَخَاضٍ ذَكَرٍ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى بَنِي الْمَخَاضِ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ فِي أَسْنَانٍ فِيهَا، وَقِيَاسُ مَنْ أَخَذَ بِحَدِيثِ التَّخْمِيسِ فِي الْخَطَأِ وَحَدِيثِ التَّرْبِيعِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ إِنْ ثَبَتَ هَذَا النَّوْعُ الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ فِي دِيَةِ الْعَمْدِ بِالتَّثْلِيثِ، كَمَا قَدْ رَوَى ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِالتَّثْلِيثِ شَبَّهَ الْعَمْدَ بِمَا دُونَهُ. فَهَذَا هُوَ مَشْهُورُ أَقَاوِيلِهِمْ فِي الدِّيَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ.
وَأَمَّا أَهْلُ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا يَجِبُ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ: عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِمِصْرَ: لَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ وَلَا مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ إِلَّا قِيمَةُ الْإِبِلِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَقَوْلُهُ بِالْعِرَاقِ مِثْلُ قَوْلِ مَالِكٍ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ تَقْوِيمُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ الْمِائَةَ مِنَ الْإِبِلِ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ مَا رَوَوْا أَيْضًا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَوَّمَ الدِّينَارَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى تَقْوِيمِ الْمِثْقَالِ بِهَا فِي الزَّكَاةِ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَيَقُولُ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ إِنَّمَا هُوَ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَعُمَرُ إِنَّمَا جَعَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ، وَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ قِيمَةَ الْإِبِلِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فِي زَمَانِهِ، وَالْحُجَّةُ لَهُ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَتِ الدِّيَاتُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَمَانَمِائَةِ دِينَارٍ وَثَمَانِيَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَدِيَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَكَانَ ذَلِكَ حَتَّى اسْتُخْلِفَ عُمَرُ، فَقَامَ خَطِيبًا، فَقَالَ: إِنَّ الْإِبِلَ قَدْ غَلَتْ، فَفَرَضَهَا عُمَرُ عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَيْ شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةٍ، وَتَرَكَ دِيَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَرْفَعْ فِيهَا شَيْئًا». وَاحْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ لِمَالِكٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَقْوِيمُ عُمَرَ بَدَلًا لَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ، لِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ لِثَلَاثِ سِنِينَ. وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ لَا تُؤْخَذُ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ أَوِ الذَّهَبِ أَوِ الْوَرِقِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَالْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ الْمَدَنِيُّونَ: يُوضَعُ عَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَا شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبُرُودِ مِائَتَا حُلَّةٍ، وَعُمْدَتُهُمْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ الْمُتَقَدِّمِ، وَمَا أَسْنَدَهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ الدِّيَةَ عَلَى النَّاسِ فِي أَمْوَالِهِمْ مَا كَانَتْ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةُ بَعِيرٍ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَا شَاةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَا بَقَرَةٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْبُرُودِ مِائَتَا حُلَّةٍ»، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الْأَجْنَادِ أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَعِيرٍ. قَالَ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ مِنَ الْأَعْرَابِ فَدِيَتُهُ مِنَ الْإِبِلِ لَا يُكَلَّفُ الْأَعْرَابِيُّ الذَّهَبَ وَلَا الْوَرِقَ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْأَعْرَابِيُّ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ فَعَدَّ لَهَا مِنَ الشَّاةِ أَلْفَ شَاةٍ. وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَيْضًا رَوَوْا عَنْ عُمَرَ مِثْلَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ نَصًّا. وَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ تُقَوَّمَ بِالشَّاةِ وَالْبَقَرِ لَجَازَ أَنْ تُقَوَّمَ بِالطَّعَامِ عَلَى أَهْلِ الطَّعَامِ، وَبِالْخَيْلِ عَلَى أَهْلِ الْخَيْلِ، وَهَذَا لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ.
وَالنَّظَرُ فِي الدِّيَةِ كَمَا قُلْتُ هُوَ فِي نَوْعِهَا، وَفِي مِقْدَارِهَا، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ، وَفِيمَا تَجِبُ، وَمَتَى تَجِبُ؟
أَمَّا نَوْعُهَا وَمِقْدَارُهَا فَقَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي الذُّكُورِ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ؟
الدية فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَأَنَّهُ حُكْمٌ مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وَمِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِأَبِي زَمْنَةَ لِوَلَدِهِ: «لَا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ».
وَأَمَّا دِيَةُ الْعَمْدِ فَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا مُخَالِفَ لَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا صُلْحًا فِي عَمْدٍ». وَجُمْهُورُهُمْ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ مَنْ أَصَابَ نَفْسَهُ خَطَأً، وَشَذَّ الْأَوْزَاعِيُّ فَقَالَ: مَنْ ذَهَبَ يَضْرِبُ الْعَدُوَّ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمْ فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا فَقَأَ عَيْنَ نَفْسِهِ خَطَأً، فَقَضَى لَهُ عُمَرُ بِدِيَتِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ، وَفِي الدِّيَةِ الْمُغَلَّظَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِي دِيَةِ مَا جَنَاهُ الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ عَلَى مَنْ تَجِبُ؟
فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ: إِنَّهُ كُلُّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَمْدُ الصَّبِيِّ فِي مَالِهِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ تَرَدُّدُ فِعْلِ الصَّبِيِّ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالْمُخْطِئِ، فَمَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ شِبْهَ الْعَمْدِ أَوْجَبَ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ، وَمَنْ غَلَّبَ عَلَيْهِ شِبْهَ الْخَطَأِ أَوْجَبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا إِذَا اشْتَرَكَ فِي الْقَتْلِ عَامِدٌ وَصَبِيٌّ، وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا عَلَى الْعَامِدِ الْقِصَاصَ وَعَلَى الصَّبِيِّ الدِّيَةَ اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْ تَكُونُ؟
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَصْلِهِ فِي مَالِ الصَّبِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَيَرَى أَنْ لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا.
وَأَمَّا مَتَى تَجِبُ؟
الدية فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَمَّا دِيَةُ الْعَمْدِ فَحَالَّةٌ إِلَّا أَنْ يَصْطَلِحَا عَلَى التَّأْجِيلِ.
وَأَمَّا مَنْ هُمُ الْعَاقِلَةُ، فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْعَاقِلَةَ هِيَ الْقَرَابَةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَهُمُ الْعَصَبَةُ دُونَ أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَتَحْمِلُ الْمَوَالِي الْعَقْلَ عِنْدَ جُمْهُورِهِمْ إِذَا عَجَزَتْ عَنْهُ الْعَصَبَةُ، إِلَّا دَاوُدَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرَ الْمَوَالِيَ عَصَبَةً. وَلَيْسَ فِيمَا يَجِبُ عَلَى وَاحِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدٌّ عِنْدِ مَالِكٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: عَلَى الْغَنِيِّ دِينَارٌ وَعَلَى الْفَقِيرِ نِصْفُ دِينَارٍ، وَهِيَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْقَرَابَةِ بِحَسَبِ قُرْبِهِمْ، فَالْأَقْرَبُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي جَدِّهِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي بَنِي أَبِيهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: الْعَاقِلَةُ هُمْ أَهْلُ دِيوَانِهِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ. وَعُمْدَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ أَنَّهُ تَعَاقَلَ النَّاسُ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي زَمَانِ أَبِي بَكْرٍ وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ دِيوَانٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الدِّيوَانُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَاعْتَمَدَ الْكُوفِيُّونَ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا قُوَّةً».
وَبِالْجُمْلَةِ فَتَمَسَّكُوا فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ تَمَسُّكِهِمْ فِي وُجُوبِ الْوَلَاءِ لِلْحُلَفَاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي جِنَايَةِ مَنْ لَا عَصَبَةَ لَهُ وَلَا مَوَالِيَ (وَهُمُ السَّائِبَةُ) إِذَا جَنَوْا خَطَأً هَلْ يَكُونُ عَلَيْهِ عَقْلٌ أَمْ لَا؟
، وَإِنْ كَانَ فَعَلَى مَنْ يَكُونُ؟
فَقَالَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ مَوَالِيَ: لَيْسَ عَلَى السَّائِبَةِ عَقْلٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ الْعَقْلَ عَلَى الْمَوَالِي، وَهُوَ دَاوُدُ وَأَصْحَابُهُ. وَقَالَ: مَنْ جَعَلَ وَلَاءَهُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ عَقْلُهُ، وَقَالَ: مَنْ جَعَلَ وَلَاءَهُ لِلْمُسْلِمِينَ عَقْلُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ لِلسَّائِبَةِ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ جَعَلَ عَقْلَهُ لِمَنْ وَلَّاهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ قَدْ حُكِيَتْ عَنِ السَّلَفِ. وَالدِّيَاتُ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمُودَى فِيهِ، وَالْمُؤَثِّرُ فِي نُقْصَانِ الدِّيَةِ هِيَ الْأُنُوثَةُ وَالْكُفْرُ وَالْعُبُودِيَّةُ. أَمَّا دِيَةُ الْمَرْأَةِ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ فَقَطْ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنَ الشِّجَاجِ وَالْأَعْضَاءِ عَلَى مَا سَيَأْتِي الْقَوْلُ فِيهِ فِي دِيَاتِ الْجُرُوحِ وَالْأَعْضَاءِ.
وَأَمَّا دِيَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِذَا قُتِلُوا خَطَأً، فَإِنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: دِيَتُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ذُكْرَانُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذُكْرَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ دِيَةُ جِرَاحِهِمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ دِيَتَهُمْ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ دِيَتَهُمْ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَقَالَ: بِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ التَّابِعِينَ.
فَعُمْدَةُ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «دِيَةُ الْكَافِرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ» وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: دِيَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَكُلِّ ذِمِّيٍّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. قَالَ: وَكَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ حَتَّى كَانَ مُعَاوِيَةُ، فَجَعَلَ فِي بَيْتِ الْمَالِ نِصْفَهَا، وَأَعْطَى أَهْلَ الْمَقْتُولِ نِصْفَهَا، ثُمَّ قَضَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ أَلْغَى الَّذِي جَعَلَهُ مُعَاوِيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمْ يُقْضَ لِي أَنْ أُذَكِّرَ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَأُخْبِرَهُ أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ تَامَّةً لِأَهْلِ الذِّمَّةِ.
وَأَمَّا إِذَا قُتِلَ الْعَبْدُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا عَلَى مَنْ لَا يَرَى الْقِصَاصَ فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: عَلَيْهِ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَإِنْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٌ: لَا يَتَجَاوَزُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ الدِّيَةَ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ: فِيهِ الدِّيَةُ، وَلَكِنْ لَا يَبْلُغُ بِهِ دِيَةَ الْحُرِّ يَنْقُصُ مِنْهَا شَيْئًا. وَعُمْدَةُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الرِّقَّ حَالُ نَقْصٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا تَزِيدَ قِيمَتُهُ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ. وَعُمْدَةُ مَنْ أَوْجَبَ فِيهِ الدِّيَةَ وَلَكِنْ نَاقِصَةً عَنْ دِيَةِ الْحُرِّ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ نَاقِصٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ نَاقِصًا عَنِ الْحُرِّ لَكِنَّ وَاحِدًا بِالنَّوْعِ أَصْلُهُ الْحَدُّ فِي الزِّنَى وَالْقَذْفِ وَالْخَمْرِ وَالطَّلَاقِ، وَلَوْ قِيلَ فِيهِ إِنَّهَا تَكُونُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْحُرِّ لَكَانَ قَوْلًا لَهُ وَجْهٌ (أَعْنِي: فِي دِيَةِ الْخَطَأِ)، لَكِنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ أَنَّهُ مَالٌ قَدْ أُتْلِفَ فَوَجَبَ فِيهِ الْقِيمَةُ، أَصْلُهُ سَائِرُ الْأَمْوَالِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْوَاجِبِ فِي الْعَبْدِ عَلَى مَنْ يَجِبُ فى الدية؟
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسِهِ. وَعُمْدَةُ مَالِكٍ تَشْبِيهُ الْعَبْدِ بِالْعُرُوضِ. وَعُمْدَةُ الشَّافِعِيِّ قِيَاسُهُ عَلَى الْحُرِّ.

.دِيَةُ الْجَنِينِ:

وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ دِيَةُ الْجَنِينِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سُقُوطَ الْجَنِينِ عَنِ الضَّرْبِ لَيْسَ هُوَ عَمْدًا مَحْضًا، وَإِنَّمَا هُوَ عَمْدٌ فِي أُمِّهِ خَطَأٌ فِيهِ. وَالنَّظَرُ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ أَيْضًا فِي الْوَاجِبِ فِي ضُرُوبِ الْأَجِنَّةِ وَفِي صِفَةِ الْجَنِينِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْوَاجِبُ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ، وَلِمَنْ يَجِبُ، وَفِي شُرُوطِ الْوُجُوبِ. فَأَمَّا الْأَجِنَّةُ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ وَجَنِينِ الْأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا هُوَ غُرَّةٌ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا. فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ». وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ الْغُرَّةِ الْوَاجِبَةَ فِي ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ رَأَى أَنَّ الْغُرَّةَ فِي ذَلِكَ مَحْدُودَةٌ بِالْقِيمَةِ - وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ - هِيَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ أُمِّهِ، إِلَّا أَنَّ مَنْ رَأَى أَنَّ الدِّيَةَ الْكَامِلَةَ عَلَى أَهْلِ الدَّرَاهِمِ هِيَ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ، قَالَ: دِيَةُ الْجَنِينِ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمَنْ رَأَى أَنَّهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَالَ: سِتُّمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَالَّذِينَ لَمْ يَحُدُّوا فِي ذَلِكَ حَدًّا أَوْ لَمْ يَحُدُّوهَا مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ وَأَجَازُوا إِخْرَاجَ قِيمَتِهَا عَنْهَا قَالُوا: الْوَاجِبُ فِي ذَلِكَ قِيمَةُ الْغُرَّةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ، وَقَالَ دَاوُدُ وَأَهْلُ الظَّاهِرِ: كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ غُرَّةٍ أَجْزَأَ، وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَهُ الْقِيمَةُ فِي ذَلِكَ فِيمَا أَحْسَبُ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ وَفِي جَنِينِ الْكِتَابِيَّةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ جَنِينَ الْأَمَةِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى يَوْمَ يُجْنَى عَلَيْهِ، وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنْ كَانَ أُنْثَى فِيهِ عُشْرُ قِيمَةِ أُمِّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا فَعُشْرُ قِيمَتِهِ لَوْ كَانَ حَيًّا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَلَا خِلَافَ عِنْدِهِمْ أَنَّ جَنِينَ الْأَمَةِ إِذَا سَقَطَ حَيًّا أَنَّ فِيهِ قِيمَتَهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: فِي جَنِينِ الْأَمَةِ إِذَا سَقَطَ مَيِّتًا مِنْهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ أُمِّهِ.
وَأَمَّا جَنِينُ الذِّمِّيَّةِ، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: فِيهِ عُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ، لَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ دِيَةُ الْمُسْلِمِ، وَالشَّافِعِيُّ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ ثُلُثُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَمَالِكٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ دِيَةَ الذِّمِّيِّ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ.
وَأَمَّا صِفَةُ الْجَنِينِ الَّذِي تَجِبُ فِيهِ فَإِنَّهُمُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ شُرُوطِهِ أَنْ يَخْرُجَ الْجَنِينُ مَيِّتًا وَلَا تَمُوتَ أُمُّهُ مِنَ الضَّرْبِ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا مَاتَتْ أُمُّهُ مِنَ الضَّرْبِ ثُمَّ سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا، فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ فِيهِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: فِيهِ الْغُرَّةُ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ، وَرَبِيعَةُ، وَالزُّهْرِيُّ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي فُرُوعٍ، وَهِيَ الْعَلَامَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى سُقُوطِهِ حَيًّا أَوْ مَيِّتًا. فَذَهَبَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى أَنَّ عَلَامَةَ الْحَيَاةِ الِاسْتِهْلَالُ بِالصِّيَاحِ أَوِ الْبُكَاءِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: كُلُّ مَا عُلِمَتْ بِهِ الْحَيَاةُ فِي الْعَادَةِ مِنْ حَرَكَةٍ أَوْ عُطَاسٍ أَوْ تَنَفُّسٍ فَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ الْحَيِّ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْخِلْقَةِ الَّتِي تُوجِبُ الْغُرَّةَ، فَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَا طَرَحَتْهُ مِنْ مُضْغَةٍ أَوْ عَلَقَةٍ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ فَفِيهِ الْغُرَّةُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا شَيْءَ فِيهِ حَتَّى تَسْتَبِينَ الْخِلْقَةُ. وَالْأَجْوَدُ أَنْ يُعْتَبَرَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ (أَعْنِي: أَنْ يَكُونَ تَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْحَيَاةَ قَدْ كَانَتْ وُجِدَتْ فِيهِ).
وَأَمَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ؟
فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ حَيٍّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ فِي مَالِ الْجَانِي، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ. وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهَا جِنَايَةُ خَطَأٍ فَوَجَبَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ. وَمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ وَبَدَأَ بِزَوْجِهَا وَوَلَدِهَا».
وَأَمَّا مَالِكٌ فَشَبَّهَهَا بِدِيَةِ الْعَمْدِ إِذَا كَانَ الضَّرْبُ عَمْدًا.
وَأَمَّا لِمَنْ تَجِبُ دية الجنين؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: هِيَ لِوَرَثَةِ الْجَنِينِ، وَحُكْمُهَا حُكْمُ الدِّيَةِ فِي أَنَّهَا مَوْرُوثَةٌ، وَقَالَ رَبِيعَةُ وَاللَّيْثُ: هِيَ لِلْأُمِّ خَاصَّةً، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَبَّهُوا جَنِينَهَا بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا. وَمِنَ الْوَاجِبِ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فِي الْجَنِينِ مَعَ وُجُوبِ الْغُرَّةِ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَاجِبَةٌ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَفَّارَةٌ وَاسْتَحْسَنَهَا مَالِكٌ وَلَمْ يُوجِبْهَا.
فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَهَا، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ عِنْدَهُ وَاجِبَةٌ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ غَلَّبَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْعَمْدِ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِي الْعَمْدِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمَّا كَانَتِ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِي الْعَمْدِ وَتَجِبُ فِي الْخَطَأِ، وَكَانَ هَذَا مُتَرَدِّدًا عِنْدَهُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ اسْتَحْسَنَ فِيهِ الْكَفَّارَةَ وَلَمْ يُوجِبْهَا.

.تَضْمِينُ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ:

وَمِنْ أَنْوَاعِ الْخَطَأِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، اخْتِلَافُهُمْ فِي تَضْمِينِ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُمْ ضَامِنُونَ لِمَا أَصَابَتِ الدَّابَّةُ، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِكَ بِقَضَاءِ عُمَرَ عَلَى الَّذِي أَجْرَى فَرَسَهُ فَوَطِئَ آخَرَ بِالْعَقْلِ. وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ فِي جُرْحِ الْعَجْمَاءِ، وَاعْتَمَدُوا الْأَثَرَ الثَّابِتَ فِيهِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «جُرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ، وَالْبِئْرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ». فَحَمَلَ الْجُمْهُورُ الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالدَّابَّةِ رَاكِبٌ وَلَا سَائِقٌ وَلَا قَائِدٌ، لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُ إِذَا أَصَابَتِ الدَّابَّةُ أَحَدًا وَعَلَيْهَا رَاكِبٌ أَوْ لَهَا قَائِدٌ أَوْ سَائِقٌ، فَإِنَّ الرَّاكِبَ لَهَا أَوِ السَّائِقَ أَوِ الْقَائِدَ هُوَ الْمُصِيبُ وَلَكِنْ خَطَأً. وَاخْتَلَفَ الْجُمْهُورُ فِيمَا أَصَابَتِ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا شَيْءَ فِيهِ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ صَاحِبُ الدَّابَّةِ بِالدَّابَّةِ شَيْئًا يَبْعَثُهَا بِهِ عَلَى أَنْ تَرْمَحَ بِرِجْلِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُضَمَّنُ الرَّاكِبُ مَا أَصَابَتْ بِيَدِهَا أَوْ بِرِجْلِهَا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسَوَّيَا بَيْنَ الضَّمَانِ بِرِجْلِهَا أَوْ بِغَيْرِ رِجْلِهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، إِلَّا أَنَّهُ اسْتَثْنَى الرَّمْحَةَ بِالرِّجْلِ أَوْ بِالذَّنَبِ، وَرُبَّمَا احْتَجَّ مَنْ لَمْ يُضَمِّنْ رِجْلَ الدَّابَّةِ بِمَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرِّجْلُ جُبَارٌ» وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا الْحَدِيثُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَرَدَّهُ. وَأَقَاوِيلُ الْعُلَمَاءِ فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهِ إِنْسَانٌ مُتَقَارِبَةٌ، قَالَ مَالِكٌ: إِنْ حَفَرَ فِي مَوْضِعٍ جَرَتِ الْعَادَةُ الْحَفْرُ فِي مِثْلِهِ لَمْ يُضَمَّنْ وَإِنْ تَعَدَّى فِي الْحَفْرِ ضُمِّنَ، وَقَالَ اللَّيْثَ: إِنْ حَفَرَ فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا لَمْ يُضَمَّنْ وَإِنْ حَفَرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ضُمِّنَ، فَمَنْ ضَمِنَ عِنْدَهُ فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْخَطَأِ. وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي الدَّابَّةِ الْمَوْقُوفَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ أَوْقَفَهَا بِحَيْثُ يَجِبُ لَهُ أَنْ يُوقِفَهَا لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ضَمِنَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَضْمَنُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَلَيْسَ يُبَرِّئُهُ أَنْ يَرْبُطَهَا بِمَوْضِعٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْبُطَهَا فِيهِ، كَمَا لَا يُبَرِّئُهُ رُكُوبُهَا مِنْ ضَمَانِ مَا أَصَابَتْهُ وَإِنْ كَانَ الرُّكُوبُ مُبَاحًا. وَاخْتَلَفُوا فِي الْفَارِسَيْنِ يَصْطَدِمَانِ فَيَمُوتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَقَالَ مَالِكٌ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ الْآخَرِ وَذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَاتَ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ.

.تَضْمِينُ الطَّبِيبِ:

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّبِيبَ إِذَا أَخْطَأَ لَزِمَتْهُ الدِّيَةُ، مِثْلَ أَنْ يَقْطَعَ الْحَشَفَةَ فِي الْخِتَانِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَانِي خَطَأً، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ: أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ إِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّهُ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ مَعَ الْإِجْمَاعِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَطَبَّبَ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ الطِّبُّ فَهُوَ ضَامِنٌ». وَالدِّيَةُ فِيمَا أَخْطَأَهُ الطَّبِيبُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَنْ جَعَلَهُ فِي مَالِ الطَّبِيبُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ أَنَّهَا فِي مَالِهِ عَلَى ظَاهِرِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ.